منقول من : صحيفة العرب اللندنية – الإثنين ١٣ ديسمبر ٢٠٢١م
بقلم الكاتب العراقي : علي الصراف
فضائح انتهاكات الولايات المتحدة لحقوق الإنسان لا تعدّ ولا تحصى. حتى ليمكن القول إن تاريخ تدخلاتها الخارجية هو تاريخ انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية.
وبرغم كل ذلك، يملك المسؤولون الأميركيون الجرأة على أن يوجهوا الإدانات للآخرين من دون أن ينظروا إلى موطئ أقدامهم.
لا شيء يبرر ارتكاب أي انتهاكات. وما من انتهاك يمكن أن يشكل غطاء لآخر. ويحسن بها جميعا أن تُحمل على محمل واحد. سوى أن المسؤولين الأميركيين، والغربيين على وجه العموم، يستخدمون انتهاكات الآخرين كأداة من أدوات النفاق، حتى وهم يعرفون أن سجلاتهم الخاصة مخزية إلى أقصى حد.
وعلى الرغم من أن تسلسل المسؤولية غالبا ما يوصل إلى قيادات عسكرية وسياسية عليا، إلا أن تاريخ النفاق لم يوصل أي واحد من تلك القيادات إلى المساءلة، دع عنك المحاكمة. ولديهم تبرير جاهز لكل جريمة. والممسحة الإعلامية لن تتوانى في التغطية على كل شيء فاضح.
ولقد جرت العادة أن يُلقوا بالحمل على عاتق “تفاحات فاسدة” لكي يبرئ الكبار مسؤوليتهم عما يتم ارتكابه من جرائم تبلغ في بعض الأحيان أقصى مستويات الوحشية التي تنفذ وفقا لقواعد منهجية معدة سلفا.
و”تفاحاتهم” ليست كـ”تفاحاتنا” طبعا. “تفاحاتهم” مطلوب لها النسيان والمغفرة. أما “تفاحاتنا” فلا نسيان ولا غفران.
مات دونالد رامسفيلد ولم يُسأل عن أي انتهاك قامت به قواته في العراق. ولا حوكم أي ضابط قاد الوحدات التي استخدمت أسلحة كيمياوية في السعي لسحق المقاومة في الفلوجة. ولا عن أي جريمة من جرائم الاغتصاب والقتل والتدمير المتعمد التي قامت بها تلك الوحدات، ولا عن قصف ملجأ العامرية في الثالث عشر من فبراير 1991 الذي كان يغص بالأطفال والنساء، وقتل فيه 408 منهم دفعة واحدة. ولا على عن جريمة “طريق الموت” التي أبيد بها الآلاف من الجنود العراقيين المنسحبين من الكويت، بضربات من وراء الظهر، وهي مجزرة اعترف الرئيس جورج بوش، بغمغمة غير مفهومة، بأنها عمل ما كان يجب أن يحصل. ولكن المحصلة هي أن أحدا لم يُحاسب عنها.
تملك الولايات المتحدة، بوسائل دعايتها أن تغطي على أي جريمة. تملك أيضا مسؤولين يمارسون النفاق، ليس كأنه هو وجههم الحقيقي، بل وكأنهم فاقدو ذاكرة عندما يتعلق الأمر بما يفعلون.
مجلس بلدية واشنطن صوّت بالإجماع على تسمية جزء من “جادة نيوهامشر” الذي تقع فيه السفارة السعودية، باسم “طريق جمال خاشقجي”.
لا شيء يبرر القلق في الرياض. لقد كان مقتل خاشقجي جريمة بشعة. ولقد حوكم مرتكبوها، وفقا للأصول القضائية. كما تم التعويض لأسرة الفقيد. وفعل المسؤولون السعوديون كل شيء من أجل أن يستنكروا هذا العمل، كما تمت إقالة كل المسؤولين المعنيين في الجهاز الأمني، وتم تغيير قواعد عمل الجهاز أيضا، بما لا يُبقي مجالا للشك، بأن عملا كذاك لن يتكرر مرة أخرى.
بينما بقيت “تفاحات” الولايات المتحدة الفاسدة من رؤوس المسؤولين، تنعم بالحرية والغطاء والحماية. وثقافة الجريمة، بقواعدها المنهجية، ظلت كما هي.
لا شيء يبرر القلق في الرياض. بلدية المدينة يمكنها أن تسمي الشارع الذي يقابل السفارة الأميركية باسم “طريق سجن أبوغريب”. وأن تقيم لوحة جدارية ضخمة، أو سلسلة لوحات، للفظائع التي كانت ترتكب هناك.
هذا الرد يكفي. ولا شيء يبرر مراعاة مشاعر “الحليف”. إنه حليف، ولكنه وقح. وقد يبلغ في الوقاحة حدا يفوق التصور، بأن تُستخدم جريمة واحدة كغطاء للمئات، بل الآلاف من الجرائم الوحشية التي ارتكبتها الولايات المتحدة عبر كل تاريخ تدخلاتها العسكرية في الخارج.
التعامل بخجل أو بمراعاة لمشاعر حليف وقح، إنما يزيده وقاحة.
بلدية الرياض تستطيع أيضا أن تقيم متحفا لجرائم الولايات المتحدة، قبالة السفارة الأميركية أيضا. بل ربما يمكن أن يحمل الطريقان المحيطان بالسفارة (عبدالله الشامي والإدريسي) صورا مع كل ما تتطلب من توثيق بالتواريخ والأسماء والمواقع التي سقط بها ضحايا تلك الجرائم.
هذا هو الشيء الوحيد الصحيح الذي إذا لم تفعله بلدية الرياض فكأنها تتواطأ مع الوقاحة، وتوفر لها مبررا لكي تفعل المزيد.
سجل الولايات المتحدة المخزي كله يجب أن يُكشف، من “العامل البرتقالي” في فيتنام إلى انقلاب الجنرال بينوشيت في تشيلي. ومن قتل الأطفال في قندهار إلى هدم المنازل وتشريد مئات الآلاف في الرمادي وتكريت.
ولقد كان للوحشية التي عومل بها العراق عنوان رسمي، أقره البنتاغون والبيت الأبيض، اسمه “الترويع والصدمة”. ومعناه العملي هو: القتل والتدمير على أوسع نطاق. وذلك من دون أن ننسى أن الأمر كله قام على كذبة البحث عن “أسلحة دمار شامل”. ولئن لم يعثر عليها أحد، فقد مضت سياسة “الترويع والصدمة” دونما عقاب ولا حتى اعتذار لعشرات الآلاف من الضحايا الذين تم قتلهم بالمجان.
لقد ارتكبنا جريمة واحدة. واستغفرنا ألا تتكرر أبدا، ومضت الرأفة لتشمل مخطئين وضالين. وظلوا هم يرتكبون جرائمهم بلا رأفة ولا استغفار. وظلت الوقاحة في النفاق هي اللغة التي يتخاطبون بها مع كل العالم. حتى أقاموا “مؤتمرا دوليا للديمقراطية”، ونسوا أنهم، قبل عشر دقائق، كانوا مجرد غزاة.
يُظهرون أنفسهم وكأنهم قديسون، بينما هم العار الذي لم يتجسد في أحد كما يتجسد بهم وبما يفعلون.
هؤلاء الناس ليست لديهم حكاية أكثر من “حقوق الإنسان”، بينما هم أكبر الذين ينتهكونها. وما يوفر لهم القدرة على التنطع بحقوق الإنسان هو أنهم وقحون. فقط.
لا تستطيع بلدية الرياض أن تتخاذل أمام موقف وقح. وهو أمر لا علاقة له بأي موقف سياسي من الولايات المتحدة. ولا يُفترض أن يُثار من حوله أي جدل رسمي على الإطلاق. إنه شأن بلديات. ولكنه مناسبة يجب ألا تضيع لكي تلقن كل المنافقين درسا ثمينا، هو أن جرائمهم ليست مما يمكن محوه من الاعتبار، أو وضعه في متحف لفقدان الذاكرة.
الكل يستطيع أن يرى أن قضية خاشقجي تحولت إلى عمل من أعمال الإساءة والابتزاز. وهو ما يمكن أن يستمر إلى وقت طويل لتلحَق بها أضرار معنوية شتى.
لا أحد يجهل الغايات من وراء ذلك. ولكن التهاون لم يعد مما يمكن القبول به. وما من سبيل للخروج من هذه الدائرة الشريرة، إلا برد الصاع صاعين.
ليس لدى بلدية الرياض ما تخشاه. لا يفترض أن يقف أمامها حائل يحول دون أن تؤدي دورا وطنيا في الدفاع عن كرامة البلاد وقيمها.
الشارع الذي يقابل السفارة الأميركية في الرياض طويل بما يكفي لكي يقدم السجل كله. فيكون درسا مفيدا للآخرين الذين يتاجرون بالبضاعة الفاسدة نفسها. وليكون بمثابة محاكمة علنية للنفاق.