الأول من شهر نوفمبر ١٩٨٢م , كان يوماً مشهوداً بالنسبة لي .. فيه بدأت حياتي الوظيفية بعد سنوات التحصيل و الدراسة الرسمية .. كنت قبلها بأسبوع قد إستلمت عرضاً من شركة سابك للعمل في مدينة الجبيل الصناعية و هذا ما دعاني الى السفر اليها لإتمام المقابلة الشخصية هناك .. كانت مكاتب شركات الجبيل في ذلك الوقت و اقعة في حي ٩ و هي عبارة عن بركسات خشبية البناء من دور واحد و مستأجرة من الهيئة الملكية و كان بناء المواقع الصناعية و الإدارية المخصصة للشركات قيد الإنشاء في مواقعها الحالية .. كانت هذه المكاتب مخصصة للتوظيف و مشرفي التدريب و شؤون الموظفين فقط .. و التي منها إبتعث العديد من الشباب السعودي الى مختلف دول العالم للتدريب المهني سواء للحصول على الدبلوم التقني بالنسبة لموظفي التشغيل و الصيانة أو للبكالوريس بالنسبة للمهندسين و الإداريين .. في ذلك الزمن القريب إبتعثت سابك و بترومين منسوبيها الحديثي التخرج و بأعداد كبيرة الى كوريا الجنوبية و اليابان و ايطاليا و هولندا و بريطانيا و امريكا .. و كانت نعم المبادرة.
كانت مدينة الجبيل الصناعية ورشة عمل مغرية ، تضم في ادارتها نخبة محترمة ساهمت من خلال صيتهم في حماسي للعمل في الجبيل فقد كان الدكتور غازي القصيبي رحمه الله نبراساً و علامة لجيلي جيل التنمية الأولى لإخلاصه و أدبه .. و كانت روح الملك فهد و كلماته تبث في الشباب الثقة بالنفس و كان رحمه الله يزاور المدينة بشكل مستمر و يعطيها اهتمامه العالي ..
أتممت المقابلة الشخصية مع شركة حديد و هي إحدى شركات سابك صباحاً و إستلمت العرض الوظيفي بعد ساعتين من الإنتظار على أن أقوم صباح اليوم التالي بإنهاء إجراءات التوظيف .. عرجت بعدها على زملاء الجامعة الأساتذة فهد المحفوظ و محمد الخالدي و الذين سبقوني بالتوظيف في شركة مصفاة بترومين شل و التي تعرف الآن بشركة مصفاة آرامكو السعودية شل ( ساسرف ) ..
لم يكن في المبنى الواسع الخالي سوى أربعة مكاتب مشغولة .. مكتب العضو المنتدب المهندس معتوق حسن جنه و مكتب السيد سميث مدير عام شؤون الموظفين و هو من موظفي شل العالمية و مكتب يتشارك فيه الزملاء فهد للتوظيف و التدريب و محمد للمالية كنقاط مراجعة .. أما الغرفة الوسطى فكانت للسيدان جيت و ساونت خادما و قهوجية المبنى ..
أقنعني أخي فهد المحفوظ بالإنضمام لشركة مصفاة بترومين شل بحيث نكون سوياً و جو الشركة على حد قوله ممتع في ظل وجود شخصية محببة مثل شخصية المهندس معتوق حسن جنه .. قناعتي كانت لثقتي في أخي أبو فيصل فقد تزاملنا في مقاعد الدراسة و سكن الجامعة و في رحلاتنا السياحية و العملية في المأكل و المشرب و المسكن و كان رفيق غربة و زميل سكن في مدينة الجبيل الصناعية و بيننا الكثير من الود و العتاب و الإحترام و الذكريات الجميلة ..
كان يلزمني لأداء المهمة مقابلة المهندس معتوق و تقديم نفسي له فهو كثير السفر و الترحال في ظل متابعة مشروع المصفاة و تفاصيله .. كان ذلك اليوم متواجدا وقتها في الجبيل فكان علي الإنتظار حتى عودته من إجتماع في مكاتب مقاول المشروع “ شل العالمية “ في الموقع .. عند وصوله رحب بنا المهندس على عجالة و دار حديث قصير بين من حضر علمت فيه أن هناك دعوة من شخص يدعى سليمان الناجم للعشاء و سيكون هناك ..
إلتقينا في المساء في شقة الأستاذ سليمان الناجم و كان حديث عهد بالزواج و كان يعمل آنذاك مندوباً للعلاقات الحكومية مع مقاول مشروع المصفاة و كانت شقته عامرة بالكرم و الألفة و ذلك لطباع و روح سليمان العطرة التي تمزج بين أصالة أهل القصيم و بساطة و مرح أهل مكة .. غايتي لتلك الليلة أن أنفرد في لقاء المهندس معتوق لكن شعبية لعبة البلوت حالت دون ذلك .. كالمعتاد عند وجود أكثر من أربعة أشخاص في المجلس أن “ يدق “ الولد بينهم فيمن يلعب .. كانت أمنيتي أن أكون و هو من ضمن الخارجين و لكن ولد “ الديمن “ أبى أن يبارح “ أبو حسن “ و هو الشغوف بلعبة البلوت و أن يتجاهلني و ذلك زادني ضيقاً.
غادرت الشقة بعذر أنني “ مصدع “ الى شقة الأخ فهد و التي كانت في الطابق التالي في عمارة سكنية إستأجرتها الشركة لموظفيها في حي الحويلات .. تبعني الأخ الغالي سليمان و هون علي و طلبت منه بإلحاح أن أقابل المهندس معتوق الليلة و كنت على علم بمتانة علاقة الأثنين فكلاهما نشأ و ربى في أحياء مكة و يعرفون بعضهم جيداً فهم أولاد حارة بالأحرى و يكنون لبعضهم جل الإحترام و التقدير .. كان جواب أبو عبد الله : إبشر.
عاد سليمان مع “ أبي حسن “ و “ أبي فيصل “ مبتسمين غامزين لامزين و أنا أبادرهم بإبتسامة .. لم ينتظر المهندس معتوق إكمال حديثي و عرض سيرتي الذاتية من أنني خريجي جامعة البترول و المعادن و تخصصي في الإدارة الصناعية .. فعنده من الحنكة و الحكمة أن يعلم أن من أمامه ما هو إلا طالب جامعي حديث التخرج .. إختصر الكلام بالموافقة و طلب من الأخ فهد إنهاء إجراءات توظيفي قبل مغادرته للمملكة .. من ذلك اللقاء كان بيني و بين أبو حسن ألفة غير عادية و كنت أعتبره أخاً أكبر و نشأت بيننا علاقة وطيدة إستمرت لسنوات كان فيها نعم الرئيس و نعم الرجل لم يفرقها إلا تركه للجبيل و العودة الى المنطقة الغربية.
من شقة الحويلات بدأت طريقي للحياة العملية فكما أن القصيبي أنس في شقة الحرية فقد أنست في شقة الحويلات مع زميلي العزيز فهد المحفوظ و رفيق الدروب المتعددة .. منها إنطلقت و حققت جزءً من أحلامي و منها كانت رحلة مع وظيفة حصلت عليها بمشئية الله .. عملت فيها و لم أخنها يوماً .. و لم أتركها يوماً حزينة .. أعطتني علماً و رزقاً و داراً .. رحلتي معها كانت أجمل من الخيال .. أعطتني قيمة في حياتي و سعة في الرزق لأبذل في مناهل الخير و أن أكون وفياً ما عشت ..
شكراً ” ساسرف “.