مواضيع منوعة
الرئيسية / بلادي حوالة / كراماً عرفتهم : الراحل : محمد بن جمعان آل جميع رحمه الله

كراماً عرفتهم : الراحل : محمد بن جمعان آل جميع رحمه الله

حركة العواطف في مشاعرنا تأخذنا بعيداً كدوامة تعصف بذكرياتنا و تلهم خيالنا للغوص في معاني الحياة، لا يبرز هذا الفضاء العاطفي إلا من خلال أشخاص مروا في ثنايا حياتنا، شخصيات تعلمنا منها الكثير لأنها كانت مميزة و كانت أيقونات في ذلك الزمان.

في زماني مررت بهامات كان لها مكانة و إثراء لمن هم حولهم، أعرف زماناً عشت في الرياض المدينة و في الحي المرقب،  في طفولتي و في كنف والديي رحمهما الله، و في جوارنا في الشارع الخلفي و الملاصق لبيتنا الأول الطيني  تعاطفنا و تلازمنا مع أسرة كانت مثالية في الذوق و أسلوب الحياة المتمدن، هذه الأسرة التي كان والدها رجل حكيم و أنيق و متبصر على الحياة منذ وقت مبكر و هو الوالد و العم الراحل محمد بن جمعان بن أحمد آل جميع رحمة الله عليه و غفرانه  الذي إشتهر بلقب “ الشيبة “، كان “ أبو جمال “ و هي الكنية لهذا الرجل الثري في أخلاقه البسيط في كلامه و معه زوجته “ أم جمال “ السيدة الودودة أطال الله عمرها على الطاعة و العافية و أن يحسن خاتمتها، كانت هذه السيدة الفاضلة ذات شهامة و حمية قل أن تجدها في النساء، عطفاً و رعاية لزوجها الذي يكبرها بسنين و لجماعته من ديار حوالة  و جماعتها من بلاد عسير ،  فيها من الكرم و الخدمة لضيوف “ الشيبة “ ما لايستطاع أن يوصف، كانت مناسبات الإجتماعات التي تكاد أن تكون يومية من تجهيز للأكل في أواني كبيرة الحجم لا يستعملها إلا الطباخون الآن في الولائم الكبيرة و الأجمل أن الكرم لا يستحقه إلا أهله فكان من حضر يغسلون الأواني و ينظفون بيت مضيفهم قبل مغادرتهم أو قبل نومهم  في مسكنه إن  أتوا من ديار بعيدة. 

ولد الراحل محمد بن جمعان  غفران الله عليه في ديار حوالة عام ١٣٣٩هـ،  ترك بلاده في ديار حوالة و عمره قارب الخمسة عشر عاماً مثله كآخرون غادروها في ذلك الوقت   بسبب الظروف القاسية للعيش، كانت هذه الفترة  مواكبة لظهور الدولة السعودية كمملكة  على يد المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز آل سعود، غادرها بألم كبير و قلب مفعم بأحزان متراكمة دعته أن يهجرها و لم يعد اليها إطلاقاً و شكلت له في نفسه “ فوبيا “ لازمته طوال حياته منعته من زيارتها حتى في أحلك الظروف و هي قصة إحتفظ بها و لم يسر بها لأي أحد لكنها كانت واضحة في وجهه المتألم غفر الله له كلما مر ذكرى تلك الديار و زمانها.

  غادر الشاب اليافع ديار حوالة الى مكة المكرمة  ليعمل في العسكرية في ثكنات كانت تسمى “ القشلة “ و هي كلمة تركية تطلق على قلاع العسكر أبان الحكم العثماني و تم إستغلالها في تلك الفترة بعد طردهم لتكون نقاط تجمع أحيل معظمها لأغراض مؤقتة بعد ثبات الحكم السعودي، عمل عسكرياً كأحد جنود الإمام الملك عبد العزيز، لم يطل المقام بها  و إنتقل الى ورشة “ الشربتلي “ بحكم مهارته في التعامل الميكانيكي  مع السيارات التي بدأت تدخل الى المملكة عن طريق إستعمالها بشكل محدود في داخل القصور الملكية، كانت الورشة معنية بصيانة سيارات الملك عبد العزيز آنذاك.

بعد مايقارب العقد من الزمان أمضاها في المنطقة الغربية  و كتأكيد لتمرسه الفني المتميز  أنتدب الى الرياض للعمل في “ الورشة الأميرية “ و التي كان موقعها في “ حي المربع “ حيث قصر الملك المؤسس،  كانت الورشة الواسعة متخصصة في صيانة سيارات الأسرة المالكة و هناك أثبت وجوده كخبير و عليم بهذه الحرفة و مهارة إضافية إكتسبها في موقع يعطيه دخلاً مجدياً و محترماً و إكراماً من قبل من تعنيهم أمور السيارات داخل بيت الحكم السعودي آنذاك.

بعد هذا المشوار الحافل بالمكانة العالية بالقرب من الأسرة المالكة و التي أثرت في شخصية “ أبو جمال “  التي كانت توصف عنه فرقاً عن أقرانه من جيله أن فيها من الإتيكيت و المظهر و الملامح النادرة في ذلك الزمن ما كان يجذب الأنظار له،  أسس و إفتتح في بداية السبعينيات الهجرية ورشة خاصة يمتلكها لصيانة السيارات في الرياض على شارع الريل، كان لهذا الشارع ميزة إشتهرت لاحقاً بموقع حرفي للأعمال الميكانيكية و خاصة السيارات. كان يشرف إدارياً على الورشة التي أسماها “ ورشة التوفيق “  و قام بتوظيف عمالة لضمان سيرها و كان يعشق إقتناء السيارات و التي يحصل عليها هبة أو شراء من أفراد الأسرة المالكة عند تجديد موديلاتها و أشتهر بقيادته للسيارة الأمريكية الفخمة المجنحة التصميم  و كانت مميزة في سيرها و عند إيقافها و يعرف بتواجده في المكان أو المناسبة التي يحضرها. وقتها قام بتوظيف عدداً من أقاربه و علمهم مهنة صيانة السيارات حتى أصبحوا ذوي سمعة و شهرة في إتقان العمل و الإنفراد بخصوصية جعلت شعبيتهم تتجلى على طول شارع الريل و من أشهر هؤلاء الأخوان  أحمد و عبد الله آل هتران الذين أصبح لهم وكالات خاصة بدهان السيارات و تمكنوا من توسيع أعمالهم في هذا المجال بحيث إمتدت و كالاتهم الى العالمية. 

كان لهذا الكفاح و المثابرة ثمن دفعه “ الشيبة “ من صحته فقد تعرض لنكسة صحية ألمت به أخذت من صحته و نشاطه الكثير لكن قلبه و روحه كان ملؤها من المحبة و التسامح الكثير، ففي وسط هذا النشاط غادر في عام ١٣٨٠هـ الى بيروت العاصمة اللبنانية رجاء من الله أن يسبغ عليه الصحة و العافية، أمضى سنة من عمره تحت رحمة الله ثم رعاية الأطباء، كان الألم كبيراً لكن الروح  مطيعة لربها، عاد الى أهله و إستمر تمكن المرض منه و لكن الرضاء لحكم الله كان إيمانه مع الصبر و دعاء من أحبوه و حزنوا لمرضه،  قاوم ذلك الجسد الهزيل السقم و لكنه عاد مرة أخرى الى بيروت عام ١٣٨٤م و مكث في مستشفاها ستة أشهر ثم عاد بعدها الى الرياض مؤمناً بقضاء الله و قدره و شاكراً لنعمه سبحانه أن أمد في عمره ليرى أهله و من حبهم و أحبوه.

 كان للراحل محمد بن حمعان “ الشيبة “ نشاطاً في مجال العقارات إشتمل على المتاجرة في الأراضي و البناء و قد قام بالمساهمة و الشراكة مع رجال أعمال في الرياض في مشاريع الشقق الفندقية في بداية دخولها الى حياة المجتمع خاصة بعد إنتقال المصالح الحكومية من جدة  الى الرياض في حي الملز و الأحياء القريبة من قصور الأمراء و كبار وجهاء المجتمع خدمة لموظفيهم و من يرعوهم.

في عام ١٣٩٤ هـ إنتهت علاقته بصيانة السيارات و بورشة التوفيق التي كانت أول مكاسبه المالية و تفرغ للعقار و كان قد إنتقل مسكنه الى حارة الوزارات في الرياض عند بداية تكوينها و سكن في مبنى شيدة كفلة سكنية و كانت تمثل نقلة له من حي المرقب الى البيت المسلح بالحديد و الأسمنت ثم حوله بعد تركه الى شقق سكنية حين إنتقاله الى مبنى سكني في نفس الحي، كان الحي آنذاك ذا موقع متميز خلف الوزارات الحكومية على شارع المطار و الذي أصبح الآن حياً متداخلا متشعباً  بعد أن كان قافراً يوحش الناس في سكناه. 

إمتدت حياته رحمه الله في هدؤ وسكينه بعد أن تغيرت الأحوال و تغير الزمان و أتت الطفرة الأولى لتظهر قوى و فرص و واقع مختلف عن ما قبلها، عاش معها غفر الله له بمعطياتها في الحد الكريم، قام بالتركيز على أسرته و العمل على نجاحهم في الدخول في عالم متجدد و كان له من الله الخيرة من هذه الدنيا، رزق خلالها بأربعة أولاد هم جمال و عبد الله و أحمد ثم عبد العزيز و له بنت واحدة حفظهم الله و رعاهم و قد أعطاهم من رزقه على تعليمهم و دعمهم حتى أصبحوا و نالوا نصيباً وافياً من الرزق و الحياة السعيدة و يعتبرون من نخبة المجتمع الحوالي المتميز خلقاً و علماً وجاهاً. 

توفي رحمة الله علية عام ١٤١٦هـ في مدينة الرياض و بكى عليه الكثير لطيب حياته و حسن مقصده و نسأل الله الصحة و العافية و أن يحسن خاتمة رفيقة حياته الكريمة المخلصة الوالدة “ أم جمال “ و أن يجزيها خير الجزاء فيما عملت لذلك “ الشيبة “ الكريم و لما عملت من خير في دنياها لرجال و لنساء يذكرونها بالخير  و حميد الخصال  رغم تقصيرنا في السؤال عنها  لكنها ستبقى في ضمائرنا حية لطيب معدنها و أصلها وشيمتها التي لا تنسى. و الله المستعان.

الصور التالية للفقيد الراحل “ أبو جمال “ في الرياض مع أبناءه جمال و عبد الله و صور أخرى أثناء رحلته الى بيروت، رحمة الله عليه و غفرانه.



عن عثمان بن أحمد الشمراني

كاتب ومدون, يبحر في سماء الأنترنت للبحث عن الحكمة والمتعة.

شاهد أيضاً

سنان الدار

ينبت الزرع المخضر حول البيوت القديمة وحول القبور .. يسقيه ماء يتسرب من وجدان الماضي …