كانت مدينة “إبقيق” في المنطقة الشرقية هي مكان ميلادي و مسرح حَبوي و ثبات قدمي لأقف بعد ثلاث سنوات في صورة جميلة مع والديّ رحمهما الله و غفر لهما ، بعد إلتقاط الصورة بأشهر قرر رحمة الله عليه ترك العمل من شركة أرامكو لظروف عملية بعد أن أمضى خمسة عشر سنة شارك في تحقيق تحولات إجتماعية مرتبطة بتوطين العاملين السعوديين ، أسهمت في تغيير أسلوب العمل و الحياة في بدايات هذه الشركة الكبيرة و كانت هي نواة المزايا التى فتحت آفاقاً واسعة لتكوين ما يسمى حالياً بالرضا الوظيفي و مفهوم العوائد و الفوائد.
و في الرياض بقيت “إبقيق” في داخلي عندما يزورنا أحباب والدي فيها قاصدين أو عابرين، يذكرونها و يذكرون أسماء صدحت في سماء طفولتي المبكرة ، هي أسماء و وجوه محببة الى نفسي على طول الزمن، رجالاً و نساءً أدعوا الله لهم بجنات النعيم و لصبية عِشت معهم ثم تفرقت بنا الدروب، أن يجعل الله الستر و العافية في حياتهم و العفو و الرحمة في مماتهم.
كان حنيني لأبقيق يعادل حنين والدي رحمه الله اليها ، فقد كان في أول سنين إقامتنا في الرياض يتردد الى إبقيق و الأحساء لمتابعة أحوال منزل في إبقيق تَملّكه من آرامكو و ملَكَه و لم نعد نملُكُه الآن، إضافة الى زيارة زملاء التآلف و أخوة الغربة ، مفضلاً وسيلة القطار و الذي كان يعد ميزة في الذهاب الى المنطقة الشرقية. كنا ننتظر عودته و نحن صغارآً لنستمتع بهدايا “البسكويت” النادر من “سوبر ماركت السنير” في ابقيق و الذي لم يكن موجوداً آنذاك في “دكاكين” الرياض ، و من فرط حبنا له نحاول الإقتصاد فيه حتى رحلته التالية.
*********************
سنين قليلة مرت .. و انقطع “ بسكويت إبقيق “ .. سحرتني الرياض و أغرتني .. أحببت حياتها و شوارعها و أزقتها .. لأن لي فيها قصص الصبا و الشباب .. أحببت عصريات شارع “الوزير” و “الثميري” .. و أماسي شارع العصارات .. ذاكرت دروسي في “حديقة الفوطة و الملز” و على أرصفة شارع “الستين” .. وتمتعت بالأوقات في “قهوة الغرابي” و أمسيات “طريق الخرج” و “خريص ” .. و تلذذت “السويت رول” و “الدونات” لأول مرة من مقاهي “جهينة” و “موكا” على شارع “المطار” .. عرفت “السينما” لأول مرة في نوادي الرياض على الحصائر و الحنابل .. و لم يفتني عدداً شيقاً من “الرياض” و “الجزيرة” و مجلة “ اليمامة” إلا و قراءته .. عشقت و أستلهمتني كتابات “السديري” و “العمير” و “الراشد” في الرياضة و الفن و السياسة و هم في بداياتهم و منها صار لي إعجاب مصرح به… فكيف لا أحب الرياض ..!
*************************
للعشق تعريف قد نختلف عليه عند إختلاف النوايا و لكن عشق الأماكن يصرح للإنسان أن يكون له أكثر من مكان حبيب، يتخلى عنه في حضرة بلاط مكان آخر .. في عام ١٩٧٦م و قبل تخرجي من الثانوية العامة بأشهر، تشاء الأقدر أن أُختَار من ضمن نخبة من الطلبة المتفوقين في مدرسة الرياض الثانوية و بدعوة من جامعة البترول و المعادن لزيارة مرافقها في الظهران كوسيلة جذب و تعريف و كانت الجامعة ذات صيت متميز و فريد و كان القبول يستصعبه الكثير من ناحية الإختبار القبولي و موقعها في الظهران لعدم فعالية و سائل النقل آنذاك.
كنت قبل الدعوة مشتت الذهن في إختياراتي .. لم تكن في ذهني جامعة الرياض و كنت أحلم ببعثة الى أمريكا وضغوط الأهل تجبرني على الرياض ..لكن بمجرد إستلامي للدعوة قررت داخلي أنها الخيار و بشكل مبدئ . ركبنا الحافلة الى الظهران عن طريق البر .. و مررنا بإبقيق و لم أشعر بمررونا لها .. كانت الأهازيج في الحافلة عالية فرحه .. و القلب لاهياً بعشق منتظر يقترب ، و كأنه عريس يُجهّز ليلة زفافه لعروس جديدة هي “الظهران”.
وصلنا الظهران عصراً و على رأس الوقت كانت دقات ساعة الجامعة تُقرع .. سمعتها بوضوح و بسعادة في أنني وصلت الغدير .. و من أول خطوة بعد نزولي من الحافلة إلتصق ثوبي بجسدي من فعل الرطوبة و كأني بالمكان يعانق .. و تلحظ عيني ذلك الجبل “ جبل الظهران” و مباني الجامعة في العلا يزينها برج الجامعة و رأيت فيه قلماً قد أكتب به مستقبلي .. عندها أحببتها و لم أعر للتفاصيل أي شي و لم آستمع الى محاضرة التعريف و الإغراء .. لقد عشقتها وقتها و قلتها بعدها أنها “ حبيبتي الشقراء” ..
***********************
و من حب المكان الى حب الروح و الجمال في المكان … و أعذب مافي حب المكان أنك تعشق و تحب بدون حدود .. تحب الناس و الكائنات و تعشق الأشياء و الجوامد .. في اليوم الثاني للزيارة فضلت عدم الذهاب لتكملة برنامج الزيارة فقراري قد إتخذته .. و حظيت بلقاء موعد لأول مرة مع الأخ العزيز و رفيق رحلة الشرقية و لو عن بعد و لكن يظل له قدر عالي عندي و مواقف جميلة لا تنسى بين الظهران و رأس تنورة و البحرين و الدمام و الجبيل عشناها لاحقاً و هو الأستاذ و صاحب ما يزيد عن الخمسة و ثلاثين سنة في أرامكو السعودية : أبو أحمد : علي بن عبد الله الغانم ، أما منسق هذا اليوم التفاعلي بالمحبة فهو أخي و حبيبي عزيز بن سعد الله بن عثمان و الذي كان لي حناناً و دفئاً في كل الأوقات .. و كانت حميمية لقاءه عامل مساعداً لحب “المنطقة الشرقية “..
علمني “ أبو أحمد “ و “ أبو صالح “ عن من تكون الظهران و ما حولها .. عرفوني بشارع “الحب” في الدمام بعد أن تعودت على أسماء أشخاص لا أعرفهم “الوزير” و “الثميري” .. عرفوني بشاطي نصف القمر في الخبر بعد أن كنت أشاهد القمر كاملاً عند منامي في سطح بيتنا .. عرفوني على البحر و ماءه المالح .. بعد أن كان يسمعني سعد إبراهيم “ فوق الرمال الحمر “ ..
عند مغادرتنا الظهران أيقنت أن القلب حب و أن القبول في نفسي تم .. فقد عرفت الكثير عن “من أريد” : عرفت الحب و البحر .. و أحببت من القمر نصفه .. و هذا يكفيني.
**********************
عدت الى الرياض و أعلنت إختياري النهائي و بدون نقاش و أصريت عليه رغم المحاولات الناعمة لوالدي رحمه الله ، لكن بعد نجاحي من الثانوية و إجتيازي لإختبار القبول للجامعة كان رحمه الله المعين بعد الله و لن أنسى دموعه المختلطة بالفرح و ألم الفراق و في كل مراحل الجامعة و التي لم تخلو من بعض اللحظات العصيبة في سير أمور الحياة و الدراسة و لي عودة عليها . رحم الله و الديّ و غفر لهما و أسكنهما فسيح جناته.