ثلاثة وأربعون عاماً مضت، منذ أن تخرجت من جامعة البترول والمعادن في صيف ١٩٨٢م .. انتقلت من الرياض الى الظهران في عام ١٩٧٧م، وأزهرت دنياي بذكريات كثيرة عن الجامعة ظلت راسخة بقية عمري .. أتذكر غربتي لأول مرة عن أهلي في مدينة جميلة الى مدينة لا أعلم ماذا يخبي لي فيها القدر، ولكن الدنيا أبرقت وأرعدت بين النجاح والفشل والمحاسبة.
كان (سنترال فندق القصيبي) في الخبر، هو وسيلتي للإتصال بأحبابي وأقاربي، كنت أغلق السماعة حيناً يائساً وأعقد سلاماً مع النسيان البديع يذكرني عقلي به ما مضى من أيامي .. يلتف على قلبي ويمنحني نعمة جديدة هي الارتواء من بئر عميقة .. تلك الجامعة التي اصبحت بعيدة لكنها في كياني قريبة .. دهاليزها بحر من الوقائع المختلفة وقصص درامية .. تتحول الى دموع صامتة لا يلمحها سواي .. في الجامعة عشت الحياة البسيطة بقيمة الإنسان .. تعرضت أكثر من مرة لمواقف أكاديمية قد تصل الى حافة فقدان فرص الحياة ولكني كنت أجد حظوة معنوية استدل بها على طريقي.
لا تزال رائحة (مطعم السكن) عالقة في هواء ذكرياتي، وغرفتي المفتوح بابها دوماً اصبحت أنقاض في حي (البركسات) تكتب عهد قديم .. مع زملائي نرقب طائر الصباح على سياج الحي، وفي الحديقة المقابلة سماء مطرزة بين نهار مشمس وليل كاحل بالنجوم .. أصعد جبل الظهران وأهبط في كل يوم حاملاً كتبي وهمومي وأحسب خطواتي وتنفسي .. لكنها تمضي بسرعة .. كانت مؤنسة وعمل كمل تاريخي وسد نواقصه.
قد تكون هذه الذكريات وهماً أن أستعيدها، وهناك من يقول أن الذكرى خيانة لمرحلة تلتها قد يكون فيها النجاح أوفر وأفضل .. يجتهد ذهني لينتشل بقاياها من خلاياه التي أصبحت ضعيفة .. ربما يتلاشى ولكني أحشد نفسي فتوقظ فيها عودة الطاعة والخلد الى بيت الجامعة.
إن الأصل الحسي في ذكريات الجامعة هو عمقها الشفاف كجامعة فريدة ومتميزة أفتخر أني أحد خريجيها .. لقد كان رهان أهلي كبير وكنت أرى نفسي مغامراً، أحمل طاقة العيش لأركبها في مسافات التحدي .. كانت في مرات تولد من جديد وأنسى الوجع، وكنت لا أخجل من البوح بها لزملائي الثقة.
أسأل نفسي عن سر الحنين الى الجامعة وكيف يلتقطني الخيال الى تلك الأيام .. أحس أني دخلت عالم “ النوستالجيا “ وهو “مفهوم الحنين الى ماضي مثالي” .. استرجع فيه لحظات سعيدة وأطرد منه لحظات سلبية .. أغازل الماضي بكل تفاصيله .. أحاول أن أتذكر محيط الجامعة وكل بناية مشيت في مناكبها، ومشاهد عشتها بين قاعات الدراسة والمكتبة وصالة الترفية و (السناك بار) ولذة (قهوة الجامعة) الفاخرة في تلك الأيام ..أشعر بصعوبة في وصف كل مشهد، أبحث في شوارع الجامعة ومرافق السكن المألوفة عن صور زاهية وعلاقات صداقة فيها من الصراحة والثقة الشئ الكثير .. ليس الحنين فيها لحيويتها بل في صحبة الرفاق بمشاغباتهم ومغامراتهم .. كانت ممكنة عندما نشاهد فيلماً في سينما الجامعة في (مبنى ١٠ ) لنكتشف سراً من أسرار شخصياتنا.
إن العودة الى الوراء ليست رحلة ممتعة ولكنها ترتقي للتعايش مع الحاضر والعلاقات القديمة مع الأماكن، خاصة عندما تكون “ رحلة في ذاكرة جامعة البترول والمعادن “.













