في سنوات سابقة من حياتي كنت استمتع كغيري بنعمة قراءة الصحف والمجلات المطوية التي كانت تشكل مذاقا ومتعة لآباء وأبناء جيلي عندما كنا ننتظر قدومها يومياً لنقلب في صفحاتها بحيث لا نترك زاوية أو ركنا منها حتى الإعلانات العامة أو المبوبة إلا وقراءناها بتمعن ودراية وفهم كامل.
بالنسبة لي بدأت هذه النعمة والمتعة منذ وقت مبكر وفي سنوات منتصف المرحلة الابتدائية في أوائل السبعينيات الميلادية عندما كنت في كل صيف إجازة مدرسية أذهب مع والدي -رحمة الله عليه- و برغبة كبيرة كمرافق غير رسمي إلى مقر عمله في وزارة المواصلات، كانت وسيلة النقل هي حافلة الوزارة التي كانت تنقل منسوبيها من أمام كل بيت وفي أي حارة إلى باحة الوزارة، وكان تلك الخدمة مقدمة بشكل مجاني لكل موظفي الوزارات الحكومية التي كانت تقع جميعها على شارع المطار في الرياض.
كنت وقتها ألقى ترحابا وحفاوة من معظم موظفي الوزارة بكل أقسامها المحدودة العدد بحكم عمل والدي -غفر الله له- الجيدة معهم، وأيضا لوجود عدد من أقاربي ممن يعملون في أقسام الوزارة المختلفة.
كان (المكتب العام) في الوزارة هو المكان المفضل لي حيث كان الوارد والصادر وأيضا مكان وصول الصحف السعودية اليومية والمختوم عليها“ غير مخصص للبيع“ ليتم توزيعها على مكاتب ومرافق الوزارة. أكون في المكتب بمجرد وصولها وكنت أساعد المسؤول في توزيعها كحزمة واحدة من صحف الرياض والجزيرة وعكاظ والندوة والبلاد اليومية في ذلك الوقت… أكون أول من يقرأ عناوينها، وفي نهاية اليوم أقوم بجمع من فرغ منها وما توفر بنسخة من كل صحيفة ومن كل موظف مختلف في باقي المكاتب وأذهب بها في آخر الدوام معي في حافلة الوزارة إلى البيت كغيري من الموظفين الذين لم يستطيعوا قراءتها في مكتبهم.
عندي عودتي إلى بيتنا أخصص الوقت للقراءة فيها بحيث إنني كنت وباهتمام وفي تلك السنوات المبكرة من عمري أعرف مناصب وأسماء معظم الوزراء والوكلاء والعسكريين في المرافق الحكومية وأشهر السياسيين العرب وزعماء العالم … إضافة إلى الكتاب الذين كانوا يكتوبون الأعمدة الصحافية وسجالاتهم الفكرية على صدر الصحف السعودية المشهورة المختلفة.
تطورت من (المكتب العام) إلى بهو الوزارة عند مدخلها الرسمي وإلى شراء المجلات والصحف العربية التي كانت تصدر من باقي الدول العربية الرائدة من خلال موزع المطبوعات المخصصة للبيع التي كان يعرضها على بساط أرضي بمساحة لا تقل عن خمسة أمتار في أربعة أمتار خصصته له الوزارة للبيع للموظفين والزوار المراجعين، فكانت الصحف العربية الصادرة قبل يوم أويومين تعرض والمجلات الأسبوعية المتنوعة… منها الصحف الكويتية: الرأي العام والسياسة ومجلة العربي والمجتمع، والصحف المصرية: الأهرام والأخيار ومجلات المصور وآخر ساعة وروز اليوسف والكواكب وغيرها، والمجلات اللبنانية: الجمهور والأسبوع والحوادث وبعض الإصدارات الأدبية كمطبوعة المختار العالمية بالعربية الشهرية… لم يبخل والدي -رحمه الله- على تشجيعي ودعمي بالمال لشراء أي مطبوعة وكنت أقوم بدور قراءة موجز الأخبار له بعد كل جلسة يومية مع تلك الصحف.
استمريت في كل عطلة على ذلك المنوال لست سنوات تالية وحتى وقت أيام الدراسة واصلت بشغف متزايد ويومي وبإنتظار عندما يعود والدي -رحمه الله- من الوزارة حاملا معه نسخ الصحف الغير مخصصة للبيع لأواصل تلك العادة وتلك المتعة التي لا توصف.
كان من أمتع أيام الأسبوع يوم الجمعة فبعد الإنتهاء من الصلاة في المسجد كان المرور على البقالة أو المكتبة المجاورة فرضا لشراء جريدتي الرياض والجزيرة مع“ غرشة“ ببسي أو ميراندا والعودة إلى المنزل لقراءتها مع المشروب قبل تناول الغداء وإكمالها على السفرة… كان يوم الجمعة مختلف لتركيزي على الملاحق الرياضية خاصة صحيفة الملاعب الرياضية الأسبوعية وزاوية معوكس في جريدة الرياض.
هناك الكثير من الذكريات التي يمكن أن غابت عني وكان تأثيرها وتأثري بها كبير ما انعكست على عشقي للقراءة والكتابة، فمن جيلنا لا يمكن أن ينسى عبده هاشم وتركي السديري وخالد المالك وعثمان العمير وخياط والجفري وعبد الله مناع والعوثي والسماري وسباعيات السباعي وغيرهم.
كانت الصحف وجبة صباحية فائقة الجودة وكل صحيفة لها نكهتها الخاصة والفريدة، نقلبها من أول صفحة إلى أخرى وقد نبدأ من آخرها حتى أولها… قارئ الصحيفة تجده ممسكا بها دافنا وجهه فيها حتى آخر كلمة… عكس أيامنا الآن عندما تكون الأخبار وفيرة وغير مفيدة لا تعرف الغث من السمين بينها… ينتابك حيرة من مصداقية الكلمة ومن عدم الثقة في سلامة فكر الكاتب ومن توجه الصحيفة… تحس أن مطبخ الصحيفة قد أفسد الطبخة وربما يفسد عقلك وتفكيرك.