مواضيع منوعة

الصف الرابع

٥٧ عاما هجريا بين تاريخ هذه الشهادة الدراسية واليوم… ليس فارق الزمن الوحيد بل فوارق مناهج العلم والعالم وتطوره… اخترت شهادة الصف الرابع الابتدائي من بين شهادات جميع مراحل تعليمي التي احتفظت بها أو بالأحرى احتفاظها والدي -رحمه الله- وسلمها لي بعد تخرجي من الجامعة.

متغيرات المناهج والتركيز التحصيلي في مرحلة الصف الرابع الإبتدائي

الصف الرابع هو مرحلة حفظ أجزاء القرآن وفهم الدين وبداية فك الحرف وإظهار جماله في الخط والتعبير وانسياب القلم الخجول… كانت صباحات يومنا مرتجفة ومسافة الطريق الطويل مشيا من البيت إلى أبواب المدرسة هواجس لما سيحدث من فواصل دراما حتى الظهيرة… كان الاستقبال الشرفي عند مبنى المدرسة المتصدع مرتبك ومتعدد حسب من يقف أمام الباب الحديدي من زبانية فريق المعارف المعروفين سلفا… ثم نساق بالعصا ضربا على مؤخرة الجسد المقوس إلى فناء الطابور… يطل علينا المدير ليعلن بدء“ اليوم الدراسي“ وكأنه يوم محاكمة وأنظارنا إلى وجوه المدرسين الذين يختلفون في اطلاعهم بين الحمائم والصقور… ننصرف بعده إلى الفصول التي كانت مختلفة النجوم بين “حنابل” وبين كراسي تتمايل ومع سقوطها تضحك الجميع لا يسكتها سوى كلمة سكوت يا ….!


في الصف الرابع درسونا أفعال النحو وكنا مفعولا به من الصرف وخبر مبني على العلوم بعد الجهل… مرحلة فيها جداول من ضربنا ومساواة الصالح بالطالح بتقليدية “ لكم اللحم ولنا العظم”… فيها الحساب العسير لعدم الحفظ وحل الواجب… بدأت مرحلة كان فيها إشهار تعليق “الفلكة” بمساعدة فراش المدرسة درءا للمفاسد، وعقاب الأصابع بمسطرة الشتاء حل لمسائل الطرح والقسمة وإهانة بالوقوف برجل واحدة هي تربية بدنية… كانت للبعض بكاء ورعبا وخوفا شديدا، ولبعضنا لا مبالاة وهروب من فصول الأزمات. كان ذلك في يوم كنا ندعوه المدرس وليس المعلم… كان المدرسون قصص أحلامنا المفجعة رغم أننا استذكرناهم بالخير حين كبرنا وهو نفاق على مبدأ“ سامحهم الله“.


في تلك الأيام كان نبوغ التلميذ هو الذي يحدد مسيرته المعارفية وليس المدرس الغضبان الحامل لعصاه… كان التلميذ الذكي يعلم زملاءه ويحل واجباتهم بعد وقت المدرسة… كان التلميذ النابغ هدفا في صالة الامتحانات طلبا المساعدة!!… كان التلميذ الكسلان أقوى سلطة من التلميذ النابغ على المدرسين، وربما ما زالت حتى وقتنا الحاضر لعوامل خارجية توطأ فيها المجتمع وسلوكه غير المنضبط سواء بالصمت أو القبول.


لا يمكن لي أن أعمم القول على كل من كان في المشهد في ذلك الزمن، لكن الصورة الذهنية الباقية هي التي ذكرتها… مهما حاولنا أن نصر على تصوير أننا كنا مجتمع ملائكي في ذاك المحيط فهذا نكران للواقع الذي عشناه ورأيناه… وأعتذر إن كنت قرأت من نصف كوب الزمان الماضي، ولكن النصف الباقي هو تقدير وإجلال لمن كانوا فيه ولم يلوثوا حياتهم بحكايات يطلبون الآن فيها الغفران والسماح.


اليوم فارق عن نصف قرن مضى، المناهج والمعلمون والوزارة تغيرت… والذي غير كل ذلك التحضر والتقنية وفوق ذلك حقوق الإنسان التي لازمت كل الأنظمة رغم أن التعصب الأيدلوجي ما زال موجودا والتخلص منه صعب المنال.

عن عثمان بن أحمد الشمراني

كاتب ومدون, يبحر في سماء الأنترنت للبحث عن الحكمة والمتعة.

شاهد أيضاً

صحف مطوية

في سنوات سابقة من حياتي كنت استمتع كغيري بنعمة قراءة الصحف والمجلات المطوية التي كانت …