الرياض المدينة هي عشقي القديم و مرابع الصبا و الشباب، أتيتها طفلاً عام ١٩٦٣م و رحلت منها رجلاً في عام ١٩٧٧م، فيها أمضيت أجمل الأيام و السنين، فيها تعلمت كل شئ من طنوب الحياة و متعتها التي هي أساس الأحلام و الآمال، ما تعلمته في الرياض هو أنهار من سماحة الحب و تذوق الفن و صداقة الحرف و أنس الكتاب، أحببت في ذلك الزمان شوارعها الضيقة القليلة و ليلاليها الدافئة الهادئة، عشقت نجومها و قمرها من على سرير الليل في سطح المنزل، طابت أمسياتي فوق رمال خريص الحمراء و هضاب ديراب الملتوية، لا صوت في ليل الرياض غير صوت العرب و شاشة تلفاز سعودي يعرض “ إخترنا لكم “ بالأبيض و الأسود.
أعود الى الرياض و لكن العود ليس بالضرورة أن يكون مثل ماكان، لكني أكسر الأقداح في سويعات و أتصرف كالماضي فهو يعطيني و يمنحني مشهداً أفوق فيه كبار المخرجين. كما كنت في الرياض أحب أن أشتري جريدة الرياض من البقالة صباح كل يوم, أتناول فطوري و هي بجانبي أقراها، كما أني أعيد عادتي القديمة بعد صلاة الجمعة في أن أشتري الجريدة و “ غرشة “ ميراندا في الطريق الى البيت، في مشوار مبكر أوقظ الأوجاع بعض الأحيان في أن أكون منذ الصباح الباكر في “ الحلة “ لأتناول إفطاري في مطعم كبدة و فول، الفرق كبير لكن المكان هو نفسه، ثم أمشي على رصيف شارع البطحاء من الحلة الى عمائر الدغيثر، أتأمل ما بقي من المباني القديمة التي أتذكرها، أتمعن الشارع بصورته القديمة و بسيل البطحاء الذي كنت أراه نهراً، أتأمل المكتبات التي إشتريت منها أول أقلامي و أول دفاتري و كتبي، أستذكرت حراج الكويتية و أتذكر معاطف الشتاء و سديرات الربيع.
الآن يقع منزلي في شمال الرياض و أرى نفسي أنني في مدينة أخرى ليست الرياض كما عشتها، عرفت الرياض بأسماء قديمة هي فعلاً أسماءها، عرفت المرقب و العود و منفوحة و الصالحية و بن دايل و الثميري و المعذر و الملز، الآن منزلي في حي القدس و بجانبي أحياء غرناطة و الحمراء و قرطبة و أشبيلية، ربما في المستقبل تظهر أحياء جديدة بأسماء أندية عالمية مثل ريال مدريد و برشلونة و جوفونتس، أسماء تنسيك الرياض بمرابعها القديمة و بأسماءها الجدية، أشياء كثيرة أخذت من الرياض تاريخها، مبانيها القديمة أهملت و سمات المدينة أخفيت فلم يبقى في الرياض نفس الماضي و لا إهتمام بما بقي.
إن أردت أن أسرد رواية عن ماضي الرياض فليس في المستطاع أن أقنع أحداً لأن الشواهد قليلة، مؤلم أن لا أطلال تصور هذا الماضي العتيق و الأرث الجميل، و لكن سيبقى العشق للرياض كبير طالما القلب ينبض.
الصور التالية من زمان مضى .. في الرياض.