في الرياض و في منتصف الستينات الميلادية كان شارع طارق بن زياد بداية من الحلة و نهاية بأطراف دوار الصالحية يمثل مسرحاً جميلاً و رواية شيقة لكل من عاش ذلك الزمن الجميل و من تنقل بين شوارعه الفرعية الضيقة و وقف عند أركانها معايشاً حياة الناس بفضول فطري يقننها قناعة الفرد و بساطة المجتمع. لم تكن المنازل ممتعة مقارنة بوقتنا الحاضر.. بل كان الشارع هو الحكاية و هو الحياة .
على ضفاف هذا الشارع نزلت و سكنت مجموعات من أهالي حوالة في منازل شعبية كحال سكان الرياض في ذلك الوقت ، كان عدد العوائل محدوداً بمعدل الخمسة ، بينما قامت في فترات مختلفة و حتى نهاية الثمانينات خمسة بيوت للجماعة العزاب ، كانت كلها على مستوى عال من الإنضباط و المساعدة في اندماج القادم من حوالة في حياة الرياض و البحث له عن مصدر رزق كريم.
في هذه الأجواء عاش أحمد المشهور ذلك الفتى الجنوبي الذي أتى الى الرياض من حوالة في سن مبكرة و كان من أوائل من سكن بيت الجماعة المعروف ببيت “ الليمونة “ ، في العموم كانت معنوياته عالية لوجود شقيقه الأكبر عبد الله بن مشهور معه في البيت والذي يتمتع بحضور و حجة في علوم الجماعة ، إضافة الى قرب سكن خاله والدي أحمد بن عثمان رحمه الله و غفر له و الذي كان يقدر في أحمد المشهور طيبته و أمانته و كان يتخذه أميناً لسره و رسولاً لبيان موقفه.
كانت حياة أهل الرياض في منتصف الستينات الميلادية تمر بمتغيرات إجتماعية في حدها الأدنى في ظل النظام الحكومي و إستتباب الأمن و إطمئنان الناس لسير أمور حياتها، لكنها لم تكن بمنأى عن مايدور حولها و تأثر ناس الرياض بالتغيرات السياسية المتعاقبة في العالم العربي و نشؤ أفكار و تيارات قومية تتصادم في بعض الأحيان مع تقاليد و أعراف الناس و فطرتهم و التي كانت مبنية على أسس قبلية و دينية .
**********************
في ذلك الزمان ، كان أحمد المشهور الأصغر سناً بين مجموعة بيت “ الليمونة “ التي كانت تضم “ عتاولة” الجماعة و كانوا أكبر منه سناً و البعض كان تواجده في الرياض لفترة محدودة لضمان ترقية أو نقل دائم الى الباحة و بلجرشي، لذلك لم يكن لديهم الإهتمام الكبير لإكتشاف ما حولهم و كانوا محدودين بين البيت و مقر العمل و ما يقتضيه الدين و الحاجة.
بحكم صغره سنه إستطاع أحمد المشهور أن يتمرد على المجموعة بأدب جم و أن يتخذ أسلوباً في الحياة و التفكير قد تخالف الكثير ممن يألفها أقاربه. إنفتح على ما يدور من حراك سياسي و إجتماعي حوله و كان في حلمه قومياً و ناصري الهوى و تأثر بالإعلام العربي و إرهاصته في تلك الأيام. كان يهنأ بقراءة و إقتناء قصاصات الصحف المصرية من مقالات لمصطفى و علي أمين و هيكل و أنيس منصور إضافة الى الإعلام اللبناني و الذي كان في قمة زمانه من خلال متابعته لمجلات الأسبوع و الحوادث و الجمهور.
لم تكن نسبة المثقفين عالية بل كان هناك إجتهادات فردية للتثقيف و كانت علامة المثقف أو من يدعي الثقافة في تلك الأيا م هو شراء مجلة العربي الكويتية و قراءة مقال الشهر للدكتور أحمد زكي رحمه الله و هي مجلة أدبية الطابع. كما أن الإعلام المسموع له النصيب الأكبر في تلك الأيام من خلال صوت العرب و هنا لندن ، و كان أحمد المشهور من الأشخاص الذين يمتع في نقله و تحليلاته و تصوره للأمور بمفهوم هادئ و دائما ما يكون ذلك في نطاق خاص و لا ينافسه في ذلك إلا والدنا و شيخنا الفاضل : صالح بن عبد الكريم حفظه الله و أمده الله بالصحة و العافية و الذي كان أحد من عاش ذلك الزمن ، و يملك “ أبو خليل “ حساً إعلاميا تقليدياً يجبرك على الإنصات و الإعجاب بمستوى الثقافة التي يملكها رغم أنه لم يتلقى تعليمياً متقدماً.
كانت مفاجاءت أحمد المشهور لمن حوله طوال حياته تبهرهم و يعاتبونه و لكنه يرد بإحسان لأنه لا يقدم على أمر الا و فيه خير و منفعة و لم يعرف التبذير و لا الإنزلاق وراء مفاسد الأمور ، و كإنعكاس و تعبير عن تيار ذلك الزمن و تأثيرة فقد إشترى سيارة ذات تصنيع روسي ( موسكوفتش)عقبها بسيارة ألمانية و هي (فولكس واجن) و اللتان كانتا بسعر أقل من السيارات الأخرى. إختصرت السيارة المسافات الى العمل و أراحته من مشاوير طويلة كان قبلها يتقاسمها مع الزميل الأمين عبد الله بن ذيبان الى ركن حاتم و مطاعم الشاورما و العصائر في شارع الوزير إضافة الى زيارة المكتبات العامة على شارع البطحاء و إنتهاء بليلة جميلة تحت أنوار الحلة و تذوق المطبق و التميس الأفغاني الطازج.
************************
كل ذلك كان في الجانب الشخصي و الذي ولد إنعكاساً ايجابياً على حياة أحمد المشهور المهنية و التي كانت تتجدد بدراسة متواصلة خارج أوقات الدوام و الإنخراط في دورات إدارية متقدمة في إدارة شئون الافراد في معهد الادارة العامة و أخرى خارج المملكة. هذا الاصرار و التفاني في العمل اوصله من كاتب صادر و وارد في وزارة المواصلات الى مدير عام شئون الموظفين في كلية الملك عبد العزيز الحريبة و التي غادرها بعد رحلة عملية مثيرة شارك فيها في عدد من اللجان و الاستشارات الإستراتيجية في القطاع الحكومي و واكب مراحل تطوره و تنفيذه.
كان أحمد المشهور أحد ثلاثة شخوص من المجتمع الحوالي المقيم في الرياض و الذين كانوا يتمتعون بمقدرة ثقافية عالية و حضور متزن و مهارة إدارية إحترافية يعززها نشاطهم العملي المؤثر في القطاع الحكومي طوال الستينيات و أربعة عقود بعدها، كان علي بن ذيبان رحمه الله و غفر له في مجال معاشات التقاعد و أحمد بن علي بن مشهور سلمه الله في المراقبة العامة إضافة الى أنهم كانوا مميزين في إندماجهم المبكر في المدنية و تعاطيهم مع الأمور و إستباقهم لأقرانهم في التحول الإجتماعي المبني على المعطيات الحديثة.
قد أظلم نفسي إن لم أسوق كلمات جميلة في حق أحمد المشهور و لكن عزاءي أنني عشت معه ذلك الزمن الجميل و كان لي قدوة قريبة و لي من الذكريات الحلوة ما لا تسعها رحاب الحروف و لا كلام اللسان ، من جميل ذكرياته أنه كان يعرف بعبداويتي و نسق لحضوري معه الى الحفل الفني لتخريج دفعة من طلبة كلية الملك عبد العزيز الحربية عام 1976 و كان نجم الحفل هو محمد عبده و كانت فرحتي لا توصف و حضرنا الحفل و كان بحضور صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز رحمه الله و غنى فيه محمد عبده أغنية إبعاد لأول مرة في السعودية.
تلكم ومضات من زمن جميل و إذا أردتم أن تعرفو أكثر… أسألوا أحد “ المشهورَين”…