من عادتي أنني في الأسفار تتفتق مشاعري لحب الأشعار .. فمكامن العربية الفصحى ميزان فريد و عذب القوافي لا تخطئه مشارف الأذان و لا شغاف القلوب .. و عندما أعود دياري أظل أجمع قصاصات نثرتها خلال الرحلة في مخابئ ملابسي و متاع سفري .. أحفظها في دفتر أيامي بعد أن كتبتها خلف إيصال فاتورة مطعم أو على تذكرة سينما و قد تكون منديل معطر على طاولة مقهى. لست بناظم و لا بشاعر يتقن تفعيلته و لكني أعشق طيب القوافي و الشعر عند العرب سيد الكلام و مختصر السهام.
إن كانت الأسفار مع صاحب مثل صاحبي ( الغامدي ) فإنه نعم الأخ و معه يحلو السفر .. إلتقينا في بريطانيا صيف عام ١٩٨٣م في مدينة ( نوريتش ) أهم مدن مقاطعة نورفولك و تقع في شرق المملكة و هي مدينة سياحية جذابة لطبيعتها الزاهية و ذات إرث تاريخي عظيم .. و قد علمت فيما بعد ان الفيلسوف و العالم الجغرافي المسلم : الأدريسي أسماها “ نرغيق “ و ذكرها في كتابة ( نزهة المشتاق في اختراق الافاق ) ..
جمعتنا في ( نوريتش ) معاهد تعليم اللغة الانجليزية في مدرستين مختلفتين و جمعنا المسكن معاً في غرفة واحدة عند عائلة ( السيدة باتسي و السيد ويليم بليث ) .. عائلة محترمة مثل باقي العوائل البريطانية التي كانت في زمن،قبل أن تحل لعنة الاٍرهاب في العالم، إشتهرت بإستقبال عدد من الجنسيات من الذكور و الإناث لتعلم اللغة الانجليزية .. بيت ( باتسي ) ذو الثلاثة أدوار و الغرف المتعددة في مساحة لا تزيد عن ١٥٠ متر مربع .. كان يمتلئ بقصص مثيرة و مواقف تشابه في سيناريوهاتها المسلسل الكوميدي الإنجليزي ( Mind your language ). كانت السيدة باتسي تجيد الطبخ بكل أنواعه و بحسب من تستضيفه على عكس غيرها اللواتي لا يقدمن سوى السمك و البطاطس أو علب الزبادي و كؤوس الحليب الطازجة و قد قلت فيها :
سلمتي يا إمراة أنت سيدة يا ” باتسي “
مذاق شهي في صحون و تباسي
أنعم عندك بأكل دون بطاطسي
بعده أغيب عن معهدي من نعاسي
في هذا البيت العتيق كانت غرفة نومنا أنا و زميلي ( سعد ) تطل نافذتها على كنيسة قديمة البناء و مقبرة صغيرة المساحة و كانت الأجراس تقرع بين الحين و الأخر إما لصلاة فرح أو حزن أو متوالية في أيام الأحاد، لم نشكي يوماً و ذلك مراعاة لمشاعر أصحاب البيت و لإحترام تقاليد البلد و قد داعبت زميلي في ذلك بإنشاد :
سعدٌ إن الأجراس تقرع في كنيسة
فأقم لنا الصلاة على سنة محمد
و أقرأ من سورة مريم سبع أيات
فالإسلام حق .. دين لعيسى و لأحمد
أثناء مقامنا كان من ضمن القاطنين في هذا الفندق العائلي فتاة يابانية و لحقتها فتاة من بلاد السودان و كنا نريد الإحتفال بهما في مطعم تكريماً من العرق العربي للعرق الياباني و السوداني الأفريقي و طرحت الفكرة على أبو عثمان بقولي :
أقامت قبلنا يا سعد في دارنا يابانية
و غداً يقولون ستأتي لنا سودانية
فإن طاب المقام فإختر لنا بلا أنانية
مطعماً منزوياً مكانه بلا علانية
وافق و إشترط أخي سعد أن يكون من ضمن المعازيم “ العمة باتسي ” و الصديق “ ويليم “ لتقليد عربي قديم أن نجعل الإنجليز وسطاء عند التعارف، كانت النتيجة أن الود لم يقم مع أهل اليابان الصديق و لا مع أهل السودان الشقيق و تركوا سواخن و نقاشات حادة كعادتهم في كل إجتماع و افترقنا بعدها كل في معهده يقرأ في كتبه.
الصور التالية مع الأخ سعد الغامدي و مع الصديق ويليم أما السيدة “ باتسي “ فقد فقدت صورتها منعاً للإحراج مستقبلاً.
دمتم بخير.