مواضيع منوعة
الرئيسية / مقالات / مساحة متأنية للبوح .. من جنون أيامي

مساحة متأنية للبوح .. من جنون أيامي

لم أذكر يوماً أنني تألمت ألماً مبرحاً في صغري، كان أول كلام أسمعه عن البكاء هو من طارق عبد الحكيم ( أبكي على ما جرا لي يا هلي ) و لا أعلم لماذا بكى حتى هذه اللحظة.. هنا تجدر الإشارة للبيان أن والديي رحمهم الله لم ينتهكوا معي أي من حقوق الإنسان و لا تعنيف بغيض رغم أن  السائد تلك الأيام أن كل شي مباح في التربية حتى أن لحم الإنسان دون العظم بيع علناً لمعلمي المدارس و لم يمانعوا و لم نستطع أن نمانع.

عشت كبعض من جيلي على حب وهمي عفيف .. كان حباً “ بلوتوثياً “ بدون إرسال أو شبكة .. كنت أسير في شوارع هذا الوهم أنيقاً في ملابسي .. تكبدت في نظافتها و كيها و في الوقوف أمام المرآة وقتاً طويلاً لتعديل مرازيب غترتي و نكسة عقالي .. و كنت كغيري من أوائل من ركب موجة السبعينات في لبس الأحذية ذات الكعوب العالية للرجال متوسطي القامة قبل أن يزاحمنا النساء عندنا فيها.

كان يحزنني صوت العروبة ( فيروز ) عندما تصدح عن ( شوارع القدس العتيقة ) من زوايا ستيريوهات الأخوة اليمنيين التي يسيطرون عليها قبل أن تشفرها قنوات روتانا و  MBC .. و مثلها أهيم مستعرضاً ماشياً في شوارع الرياض الضيقة ما بين المرقب و الوزير و سويقة .. أسير فيها ببوح ( فريد الأطرش ) و هو يقول ( عش أنت .. أني مت بعدك ) .. لم أكن أعرف من “ أنت “ لكنها لامست قلبي و وجداني .. أما أم كلثوم فلم أكن وقتها واعياً بما فيه الكفاية و لا مهيئاً لها لأن هناك من حذرني لأنها غنت ( هل رأى الحب سكارى )، إلا أنني في مرحلة متقدمة إستوعبتها  عندما أصبح السهر عادة لي أطوي به ليلي مع ( يا مسهرني )، حينها أصبح لي إستقلاليتي لكي أنام في زاوية على سرير حديدي و طراحة قطنية تمتص عرقي فوق سطح بيتنا المرقبي، أراقب معها النجوم و أتابع عبر الأثير حفلات شم النسيم في مصر .

بعد تجربتي الأولية في أن أكون ” سميعاً ” بدأت أدخل عالم البصريات، داومت على قراءة دوريات ( سوبرمان )  و ( الوطواط ) المصورة و حاولت أن أطير مثلهم ، للأسف فشلت، فشرشف فراشي الذي أشرعته فوق كتفي  لم يطير بي سوى من فوق طاولة متوسطة الإرتفاع، لم يتحرك الشرشف و بقي ملصقاً على ظهري  و أيقنت بعدها و بدون شك  بأنني “ عثمان “ و لست بـ “ عباس “. 

إنتقلت بعدها الى معرفة السير و الأساطير ، مما قرأت كانت ( أشعار المعلقات )  و لم أصبح شاعراً، و قرأت عن ( الزير سالم ) و فضلت أن يكون السلام و السلامة شعاري، لم أتطلع يوماً أن أكون فارساً أو محارباً،  عرجت على الروايات و دهاليسها فسامرت الليالي أقرأ ( البؤساء ) لفيكتور هوجو و قصص ( أرسين لوبين ) البوليسية و مغامرات ( رأفت الهجان ) في اسرائيل، كانت النتيجة أنها لم تساعدني للأنخراط في سلك العسكرية أو المخابرات أو حتى أن أكتب رواية واحدة فقط لأشارك بها في أحد معارض الكتاب حتى يفتح الله لي أبواب الشهرة المبنية على خيالات من ( عاصوف ) عقلي الذي إحترمته خلال قراءاتي المتنوعة.

و في حين غرة من نفسي تمكن مني ( نزار قباني ) بنزارياته وبهرولته ذات النزوة العالية و الناصرية المنتفخة فكاد أن يجعلني فوضوياً بوهيمياً  و حاولت أن أتمرد بفكري تملقاً لمن حولي و لم أستطع لمحاذير كثيرة، فشل هو معي و لم أقراء فنجاله بمزاج عالي  و لا  رسالته المائية ، لم أتصور شاعريته الملونة الخارجة عن الأعراف خاصة عندما كذب علي و قال ( إشتقت إليك فعلمني أن لا أشتاق )، و من أعادني الى الطريق المعتدل فيما بعد كان ( غازي القصيبي ) و دخلت عصفوريته و لم أخرج منها حتى الآن و مازال قيده يحيط بمعصمي.  

بعد القصص الكرتونية و السير الأسطورية و الشعر الذي أغواني، بدأت أتعفف عنها لكبر عقلاني في نفسي و كبر في سنين عمري و كنت قد إستهواني دخول جهاز التلفزيون في بيتنا المرقبي في بدايات بثه، فنما فهمي و إدراكي و تبصرت حياتي و أنا أتابع الشيخ ( الشعراوي ) في طرحه الجميل و بيانه البليغ في تفسير القرآن الكريم، زاده  شرح العلم و الإيمان للبمصر العلمي ( مصطفى محمود )، كان الإثنان مشعلان لي في طريق الحياة و روحانية ما زلت أتشرب من أنهارها روح التسامح و عظم الخالق بدون عقد أو أدلة فيها قولان بل قول واحد فصل حكمه و شرعه الله لنا منذ بيانها في كتابه الكريم و سنة رسوله الأعظم الأصيلة.  

تلك هي أيام وسنين سادت في كياني و ذابت في وجداني .. عطرها باق و بوحها في جوانح قلبي، يثيرها تعاقب الأوقات و اللحظات فأسترجع فيه طفولة ببرآتها و صباً بعفويته و شباباً بعنفوانه .. تلك هي من بقايا عمري و جميل فرحه و حزنه .. مهما كانت أيدولوجياتي المتعاقبة في حياتي فلا يمكن أن أنكرها أو أتغافل عنها .. ليس بالضرورة أن أبوح بكل ما فيها و لكنها تظل تترنح و تدور في زوايا قلبي و ذاكرتي .. لا يمكن أن أنساها و إن أنكرتها سأتنكر لأشياء كثيرة في حياتي و هذا ليس من العدل و لا الإنصاف لي و لعقلي.

الحياة هي سمة من التناظر .. فيها التنافر و فيها التفاخر .. أجمل مافيها عندما أربح إحترام ذاتي لعقلي .. الشفقة على نفسي لا تعطيني الإطمئنان لها و تكاد تدخلني باب الحيرة و السكون و عدم معرفة الحياة،  و هذه الحيرة لا أريدها لأنها تكبل فكري و عقلي،  مبدأي في الحياة أن الله وهبني العقل و لن أسلمه لأحد و لا أرتضي أن يكون عقلي أسيراً و مربوط بلجام يشده غيري، و خير الختام في هذا السياق و في حياتي أن أدعو الله سبحانه و تعالى بدعاء صادق ( إنك عفو تحب العفو فأعف عني و أحسن خاتمتي ).

 دمتم في رعاية الله.

  

عن عثمان بن أحمد الشمراني

كاتب ومدون, يبحر في سماء الأنترنت للبحث عن الحكمة والمتعة.

شاهد أيضاً

لماذا الحرب ؟

السؤال الذي نطرحه هذه الأيام لماذا الحرب؟ ولماذا القتل ؟ .. ساقتني الصدفة الى ملاحظة …